نبدأ مع ولادة سيدنا موسى عليه السلام
تمادى فرعون في غيه وعلا في الارض وأنزل الخسف بطائفة من رعاياه هم بنو اسرائيل ، اذ عاشوا في ظلاله عيشة البلاء واصطبروا على الشدة وبينما هم يضطربون ويرزحون في نكد من العيش وسوء الحال اذ تقدم الكاهن من فرعون وقال له .
يولد مولود في بني اسرائيل ، يذهب ملكك على يده ، فثارت ثورته ، وتحير في بهتانه وأمعن في غيه فذبح أبناءهم واستبقى نسائهم ، ولكن قدرة الله تعالى تسامت أن يقف أمامها تدبير خائب ، فقدر في قديم أزله لهؤلاء المستضعفين أن يرثوا ملك هذا الطاغية الجبار على يد طفل يربى في بيته ، ولكنه كالورد ينبت من ثنايا الشوك ، وكالفجر من مهد الظلام ..
مكن الله بني إسرائيل ، وأورثهم أرض مصر والشام وأرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
جلست يوكابد ( أم موسى ) في ركن من منزلها ، وقد جاءها المخاض ، فدعت قابلة لتهيئ لها مثل ما يكون في هذه الحال ، فعالجتها ، فلما وقع موسى على الارض ، اضطربت نفسها ، ولكن حبه تغلغل في قلبها فحرصت على حياته ، وجدت في البقيا عليه ، فلم يتسرب خبره الى فرعون عدو الاطفال ، واستمر ثلاثة من الشهور كذلك ، حتى اذا نشر الملك عيونه في المدينة يتفحصون الاطفال ألهم الله أم موسى أن تهيئ له صندوقا تضعه فيه ، ثم تلقي به في النيل ، وترسل على الشاطئ اخته تقص أثره ، وتلم بخبره بعد أن ثبت فؤادها ، وهدأ روعها بقول كريم ..
سارت أخت موسى تقص أثره ، وما كان أشد هلعها حينما حمل الصندوق الى فرعون ، ولكن رحمة الله قريبة منه ، فلم تكد تنظره امرأة فرعون حتى ألقى الله محبته في قلبها ؛ فطلبت الى زوجها أن يكون ابنا لها وله ، وقد اصبح قلبُ يوكابد أم موسى فارغا من الهم والاشفاق على وليدها ، لانها استودعته الله ، وهي رابطة الجأش ، ثابتة الايمان .
وسبقت اليه المراضع ، لعله يقبل على واحدة منهن ، فيروي غلته ، ويشبع جوعته ، ولكنه عاف المراضع ، فانبرى هامان ، وقال : إن هذه الفتاة تعرفه ، فخذوها حتى تخبر بحاله ، ولما سئلت الفتاة قالت : إنما أردت أن أكون للملك من الناصحين ، فأمرها فرعون أن تأتي بمن يكفله ، واقبل يحمل الطفل باكيا وهو يعلله حتى أقبلت امرأن ، فاستأنس بها الوليد ، والتقم ثديها من دون النساء جميعا .
فدهش فرعون وقال لها : من أنت ؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك ؟!
فقالت أم موسى : اني امرأة طيبة الريح ، طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه اليها واجرى عليها رزقا ، فرجعت الى بيتها ..... وهكذا كافأها الله فقرت عينها به لتعلم أن وعد الله حق
خروج سيدنا موسى من مصر
أتمت يو كابد رضاع ابنها موسى ، ثم اسلمته الى القصر الفرعوني ليكون لهم عدوا وحزنا .
ولما بلغ أشده واستوى ، أوحي الله اليه بالنبوة ، وآتاه العلم والحكمة .
اتجهت أنظار المستضعفين المغلوبين الى موسى ، ليحميهم مما اثقل كاهلهم من االظلم والآلام ، وهؤلاء قومه ، وهو ذو النفس الكريمة التي أشربت عزة الله ، واستنارت بنوره .
عاهد موسى نفسه على ان يكون لهؤلاء المظلومين نصيرا ، وفيما هو يتجه نحو العاصمة الفرعونية ، اذ وجد رجلين يقتتلان احدهما عبري من مشايعيه ، والآخر فرعوني من أصحاب القوة والسلطان ، فسأله مظاهره أن يحول بينه وبين اعتداء الفرعوني ، فهم موسى فضرب الفرعوني فكانت القاضية ، ثم ندم على فعلته ، وعدها من عمل الشيطان واستغفر ربه على ما فرط منه، فغفر له ربه انه غفور رحيم .
ولقد كان الغفران نعمة على موسى ، وحافزا لرحمته ، وداعيا لسلامه ، فاستعاذ بالله أن يكون ظهيرا للمجرمين ،،،،، ولكن موسى تغلبت عليه بشريته وانتصرت على حواسه طبيعة الانسان ، فلم يعلق ارادته بارادة مدبر امره ومصرف الكائنات ، ولم يستثن مشيئة الله ، فوقع فيما عزم على النجاة من غوائله ، اذ اصبح في المدينة خائفا يترقب ، فاذا بالرجل الذي استنصره بالامس يستصرخه اليوم ،،،،،
فرماه موسى بالغواية والضلال ولكنه اندفع الى مظاهراته ، فظن أن موسى يقصد قتله فتقدم اليه مسترحما قائلا : (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين -- 19)سورة القصص.
فلم يكد يسمع الفرعوني هذا الاتهام الصريح ...... وقد كان قومه في حيرة في امر قتيل الامس ، يعرفون قاتله - حتى وافاهم وأخبرهم بخبر موسى ،،،، فتألب القوم يبحثون عن موسى ليمزقوه شر ممزق ، ولكن رحمة الله قريبةً منه .......
اذ جاء من أقصى المدينة رجل يسعى ،، نحو موسى ،،،
يا موسى يا موسى أن الملاء يأتمرون بك ليقتلوك ، ثم نصحه بالخروج من المدينة الى حيث يشاء رب العالمين
سيدنا موسى ينزل أرض مدين
خرج موسى من المدينة خائفا يترقب ، متجها الى أن يصرف عنه كيد الظالمين ... سار ثماني ليال قاصدا بلاد مدين ولا معين له الى عناية الله رب السموات والارض .... ولا رفيق يؤنسه إلا نور الله من حوله ،،،،، ولا زاد يحمله إلا زاد التقوى ،،،،، مشى حافيا حتى تساقطت جلود قدميه ،،،، جائعا تتراءى خضرة البقل من بطنه هزالا .... ولم يكن له عن كل ذلك إلا عزاء واحد ،،،، هو غنيمته بالبعد عن فرعون وقومه ..... ونجاته بعيدا عن الرقباء والكائدين ......
توجه الى مدين ، فوجد حشدا من الناس قد تزاحموا على مورد للماء .... كل منهم يعتمد على قدرته في التقدم والمسابقة الى البئر ، ورأى من دونهم امرأتين تفصلان أغنامهم حتى لا تختلط بأغنام غيرهما في ضعف وذلة ،،، إلى أن ينكشف هذا الحشد ،،،، وينصرف الجمع ،،،، فتتقدما للسقيا ....
ثارت في نفس نبي الله ثورة النصفة ,,, وحماية المستضعفين ، فتقدم وسالهما :
ما خطبكما ؟
قالتا:
لا نسقى حتى ينصرف الرعاة ... حذرا من مزاحمة الرجال ،،،، وقد جئنا نسقي اضطرارا ،،،، لأن أبانا شيخ كبير لا ينهض ، فما تأخر موسى عليه السلام عن نجد الضعيفتين ،،، بل سقى أغنامهما ، وتولى إلى الظل ،،، ثم انطلق لسانه يسترحم رب السموات ،، ويستدر العطف ,,, لانه فقير محتاج ......
بكرت الفتاتان بالرجعى إلى ابيهما الشيخ على غير عادة ، فسألهما الخبر ، فأخبرتاه ،،، وقد استجاب الله استرحام موسى ،،،، فحنا عليه ، اذ ألهم الشيخ أن يرسل أن يرسل في طلبه إحدى ابنتيه ، فجاءته الفتاة مستحية متخفرة ...
فقالت :
( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) سورة القصص
تبع موسى الفتاة الى بيت ابيها استجابة للدعوة .... ومن حياء الانبياء وأدبهم أدب سيدنا موسى عليه السلام مع الفتاة... فقد طلب منها ان تسير خلفه وتشير له بالطريق يمنة ويسرة .. حتى لا يقع بصره على الفتاة وهي تسير أمامه ..
فنزل صدرا رحبا ،،، وآنس حرما آمنا ،،،، ثم قص عليه قصصه ،، وأفضى إليه بمكنون سره ، فطمأنه الشيخ وقال :
(لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) سورة القصص
سيدنا موسى يصاهر الشيخ ثم يعود الى وطنه
هدأت نفس موسى في منزل الشيخ الكبير ، وسكنت الى صحبته ، ولا بدع فنور الايمان يتلألأ من كلا القلبين ،،،، وفيض الإخلاص يتفجر من كلا الرجلين ،،، وشبيه الشيء منجذب اليه ....
ولقد كان موسى كريما فتيا ،، أثار في نفس الشيخ وبنتيه عوامل الإكبار والإعجاب ،،،، لما زانه الله به من طبع قويم ،،، وخلق كريم ،،،، فتحرك في نفس الفتاة حب الاستظهار بموسى وقوته ،،، والإبقاء عليه لطهارته وأمانته ،،،
فقالت :
( يا أبت استئجره إن خير من استئجرت القوي الامين ) سورة القصص
او ليس هو الذي أقل الغطاء عن البئر منفردا مع صعوبة حمله ،،، على ما كان به من تعب وهزال ؟؟
او ليس هو العف الطاهر الذيل الذي أطرق برأسه حينما بلغته رسالة ابيها واستدعته إليه ؟؟
فسار أمامها وسارت خلفه ، وفاء لحقوق الطهارة وذمام المكرمات ،، وحتى لا تمتد عينه إليها فيكون من الخائنين .....
مر حديث الفتاة إلى أذن ابيها ، فلم ينبه غافلا ، ولم يحرك ساكنا ،، بل كان صدى يرجع ما كان يجيش في صدر الشيخ من أمل ورجاء ،،،،،، اما وقد مزق التماس الفتاة حجاب السكوت ،، فقد استقر أبوها في مجلسه ،، ثم انبرى يقول :
يا موسى ، اني لراغب في أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين على أن تكونا عونا لي وظهيرا أجيرا ترعى الغنم ،، وتقوم بنصرتي ومساعدتي ثماني حجج (اي سنين) وإن زدتها اثنين فتلك منةُ جليلة ... أرجوها منك ... ولا احتمها عليك ..
وسأكون لك إن شاء الله من الأوفياء المخلصين ......
ولقد كان موسى شريدا في بلاد مدين ،،، ووحيدا طريدا نائبا عن الأهل ،، قصيا عن الأخلاء ،، مستوحشه نفسه ، فلم يكد يسمع دعوة الشيخ حتى سرى أمل الحياة في نفسه مسرى الماء في العود ،،، وانطلق لسانه يقول للشيخ :
إني لسعيد بصحبتك أيها السيد الكريم ،، قوي بمناصرتك ،، عزيز بمؤازرتك ...
طاب مقام موسى ،، واخضر في حياته عود الأمل : فأتم أقصى الأجلين ،، يكلأ أمور الشيخ ،،، ويدبر شؤونه برعاية الأمين المناصح الحكيم ،،، وتم الزواج بإحدى الفتاتين ...
ثم وهب له صهره الكريم أغناما له خالصة سائغة ،، وبعد ذلك تحركت في صدره نشوة الحنين إلى الوطن ،،، ونزعت نفسه إليه ،، ولج به الشوق والهيام ..
بلاد ألفناهـــــــا على كل حالــــة وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها ولا ماؤها عـــــــذب ولكنهــا وطــن
جمع موسى أشتات متاعه ، وهيأ رحله ، واستعد ليذهب مع زوجه إلى مصر ،، فودعا الشيخ وداعا حسنا ، ودعا لهما بالتوفيق والسداد ،،، ثم سارا نحو الجنوب ،، حتى طور سيناء ... وهناك ضل موسى الطريق فحار في أمره ،، والتوى عليه قصده ,,,,,, ولكن عناية الله لاحظته ،،،، فلم يخب ضياؤه ...... ولم ينطفيء رجاؤه .....
_________