بقلم محمد عبد الوهاب جسري
كنت أقف في دوري على شباك التذاكر لأشتري بطاقة سفر في الحافلة إلى مدينة تبعد حوالي 330 كم، وكانت أمامي سيدة ستينية قد وصلت إلى شباك التذاكر وطال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية : الناس ينتظرون أرجوكِ تنحي جانباً، فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن المشكلة فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر وليس معها واحد يورو قيمة بطاقة دخول المحطة وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع، قلتُ لها: هذا واحد يورو وأعطها البطاقة وتراجعتُ قليلاً وأعطيتُ السيدة مجالاً لتعود إلى دورها بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.
اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً وكأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن أنني اشتريت بطاقتي وسأتوجه إلى ساحة الانطلاق فقالت لي بصيغة الأمر: احمل هذه، وأشارت إلى حقيبتها.....
كان الأمر غريباً جداً، هنا عند هؤلاء الناس الذين يتعاملون بلباقة ليس لها مثيل.
بدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سوية إلى الحافلة، من الطبيعي أن يكون مقعدي بجانبها لأنها كانت قبلي تماماً في الدور.
حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر تساقط الثلج الذي بدأ منذ ساعة وأقسم بأن يمحو جميع ألوان الطبيعة، وأن بياضه يجب أن يعم البسيطة، معلناً بصمته الشديد: أنا الذي آتي لكم بالخير وأنا من يحق له السيادة الآن. لكن السيدة منعتني و جلستْ هي من جهة النافذة دون أن تنطق بحرف، فرحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي تـنظر في وجهي وتحدق فيه، طالت التفاتتها دون أن تنطق ببنت شفة، وأنا أنظر أمامي حتى أنني بدأت أتضايق من نظراتها التي لا أراها لكنني أشعر بها، فالتفتُ إليها، عندها تبسمتْ قائلة:
_ كنت أختبر مدى صبرك وتحملك
_ صبري على ماذا ؟؟
_ على قلة ذوقي، أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر...
_ لا أظنك تعرفين، وليس مهماً أن تعرفي
_ حسناً سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغول كيف سأرد لك الدين
_ الأمر لا يستحق، لا تشغلي بالك
_ عندي حاجة سأبيعها الآن وسأرد لك الـ واحد يورو، هل تشتريها ؟ أم أعرضها على غيرك ؟.
_ هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي ؟؟
_ إنها حكمة، أعطني واحد يورو لأعطيك الحكمة
_ وهل ستعيدين لي الـ واحد يورو إن لم تعجبني الحكمة ؟؟
_ لا ، فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن الـ واحد يورو يلزمني أريد أن أرد به ديني.
أخرجتُ اليورو من جيبي و وضعته في يديها وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها، لازلت عيناها جميلتين تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع عينيها يخبرون عن ذكاء ثعلبي، مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة، لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين بأنها ستحدثني عن نفسها، فرحلتنا لازالت في بدايتها.
أغلقت أصابعها على هذه القطعة النقدية التي فرحت بها كما يفرح الأطفال عندما نعطيهم بعض النقود وقالت:
_ أنا الآن متقاعدة، كنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة، جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار، يا لحظها السعيد، ستسافر إلى أمريكا عند أولادها، اشتريتُ معطفاً جديداً وحذاءً، أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التكسي أحرجني وأخذ مني واحد يورو زيادة فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة ولم أكن أدري أنه ممنوع.
أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حيث دفعت عني دون أن أطلب منك، الموضوع ليس مادي، ستقول لي بأن المبلغ بسيط، سأقول لك أنت سارعت بفعل الخير ودونما تفكير.
قاطعتُ المرأة مبتسماً:
_ أتوقع بأنك ستحكي لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتـُها منكِ ؟ أين الحكمة ؟
_ "بس دقيقة"
_ سأنتظر دقيقة
_ لا ، لا ، لا تنتظر "بس دقيقة" هذه هي الحكمة
_ ما فهمت شيئاً
_ لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال
_ ربما
_ سأشرح لك:
" بس دقيقة" لا تنسى هذه الكلمة، في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، عندما تفكر به وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار، أعطِ نفسك دقيقة إضافية، ستين ثانية، هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية؟ .... في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل اصدار قرارك قد تتغير أمور كثيرةً ولكن بشرط
_ وما هو الشرط ؟
_ أن تتجرد عن نفسك، وتـُفرغ في دماغك وفي قلبك جميع القيم الانسانية والمثل الأخلاقية دفعة واحدة، وتعالجها معالجة موضوعية ودون تحيز، فمثلاً :
إن كنت قد قررت بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك، فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد عن نفسك، ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء منه، وعندها قد تغير قرارك تجاهه.... إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أوتمنتع عن معاقبته وتسامحه نهائيا.... دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية.... دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بانسانيتك وأكثر بعداً هواك.... دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة قوم بأكملهم. هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة ؟؟
_ صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو.
_ تفضل أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.
أعطتني اليورو، تبسمتُ في وجهها واستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة، لأنتهبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة:
_ هل تعلم أنه كان بالامكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي، فالآخرون لم يكونوا ليدروا ماهي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب واحد يورو من أحد.
_ حسناً وماذا ستبيعني لو أعطيتك مئة يورو ؟؟
_ سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً
علتْ ضحكتـُنا في الحافلة، وأنا أُمثـِّلُ بأنني أريد النهوض ومغادرة مقعدي، وهي تمسك بيدي قائلة:
_ اجلس، فزوجي متمسك بي، وليس له مزاج أن يموت قريباً
وأنا أقول لها
_ "بس دقيقة" .... "بس دقيقة"
لم أتوقع بأن الزمن سميضي بسرعة، كانت هذه الرحلة من أكثر رحلاتي سعادة، حتى أنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ الحافلة عندما وصلنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً.
قبل ربع ساعة من وصولها، حاولتْ أن تتصل من جوالها بابنها كي يأتي إلى المحطة ليأخذها، ثم التفتتْ إليّ قائلة: على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد، فأعطيتها جوالي لتتصل.
المفاجأة، أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً، استلمتُ رسالتين على الجوال، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً بمبلغ يزيد عن 10 يورو، والثانية منها تقول فيها: كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك، إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستستقبلك، فرددتُ عليها برسالة قلت فيها: عندما نظرتُ إلى عينيك خطر ببالي أنها عيون ثعلبية لكنني لم أتجرأ أن أقولها لك، أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.
"بس دقيقة" حكمة أعرضها للبيع فمن يشتريها مني في زمنن نهدر فيه الكثير الكثير من الساعات دون فائدة !!!
**اعجبني الموضوع و احببت ان انقله لكم لتعم الفائدة**